الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

الخصائص النوعية للدماغ البشري
















1- المخ وتنظيم العمليات المرتبطة بحاجات الكائن البشري :
الدماغ البشري عضو جهازي مسؤول عن تنظيم العمليات الجارية داخل الجسم البشري ، لأنه يقوم بتنظيم الحركات الإرتباطية وتنسيق عملها وفق الحاجات الضرورية ، وهو قادر على الإحاطة الكاملة بكل المجريات الحركية والحسية القائمة على الاستجابة النوعية تجاه المؤثرات الخارجية 0 فالدماغ البشري يعمل على تحليل وتقييم المعطيات والإشارات الواردة إليه من خلال قنوات الاتصال مع العالم الخارجي ، ويتخذ قضايا إجرائية متوافقة مع هذه المعطيات وبالتالي يقوم بالتنسيق المتكامل لكل الإشارات والعوامل الداخلة في بنيته وتحليل النظم المتكاملة لهذه المعطيات ، ويعمل لإخراج المواقف الضرورية للحياة والتفاعل مع العالم الخارجي . إنه قادر على تنظيم التفاعل بين الكائن وما يجري خارجه من معطيات تؤثر على علاقة هذا الكائن بما يجري حوله من علاقات وتفاعلات 0 الدماغ البشري لديه مقدرة حقيقية لتحقيق التوازن والانسجام مع الحياة بكل معطياتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية . وغيرها من القضايا المتفاعلة مع حركات الكائن وفق صيرورة تاريخية متغيرة ومنسجمة مع الحياة الإنسانية .
ولا تنحصر طاقته فقط بتأمين التفاعل الجسدي مع الواقع والحياة وإنما يمتلك مقدرة خاصة على اكتساب المعارف وخزن المعلومات وفق الرموز والكشف عن حقائق جديدة ، لأنه يحول المدركات إلى معاني معقدة ويتعمق في الوعي الدلالي المتشكل من تراكمات معرفية ، هي في جوهرها نتاجاً فاعلاً خرجت عن طاقته عبر مسير تاريخي تتابعي فقد تعمقت البنية الدماغية مع تطور الحياة الإنسانية ورافقت متغيراتها التاريخية .
فجميع المعطيات والتطورات والتقنيات تعبر عن مستويات مبتكرة ناتجة عن نشاطه ، لأنه عمق قدرته على التواصل والتكيف مع جميع المتغيرات الجارية داخل مجال النشوء الحي .
إن وجود النيرونات (الخلايا العصبية ) وقدرة تمثلها للكربوهيدرات لتأمين الطاقة الحية للدماغ تعمق فاعليته الاتصالية ، كما أن الموصلات العصبية والبيتيدية هي القادرة على تأمين الرسائل العصبية وتشكيل اللغة الدماغية ، فالإستهلاك المتزايد للطاقة بدون إجراء معادلات فاعلة في نظام الحياة يضعف الطاقة الدماغية في إظهار مهامها الحيوية ضمن عملية التفكير . كما أن عدم قيام الموصلات العصبية بمهامها الأساسية يؤدي إلى ضعف السوية الدماغية لإعطاء الأوامر المناسبة 0فالأكسجين من المواد الأساسية المنظمة للعمليات الدماغية لأنه الأساس في عملية التمثيل الغذائي داخل الخلايا العصبية وأي نقص يؤدي لتشكيل اللاكتات وهي سكريات بسيطة يلزمها الأكسجين للاحتراق ، تسد الأوعية الدموية وتؤدي إلى التأثير البالغ على الدماغ وتزايد كميتها عن الحد المعقول يؤدي إلى الجلطة الدماغية .
إن وجود الشجيرات على حواف الخلايا العصبية يؤمن تلقي الاستثارة بين هده الخلايا والاستثارة عملية مركبة يمكن أن تكون تنشيطية أو تنبيهية أو توجيهية وعندما تصل الاستثارة إلى العتبة الفارقة للنشاط ،تؤدي إلى إطلاق الخلية للشحنة العصبية ، والعملية الإطلاقية للشحنات إما أن تكون كاملة أو لا شئ ، أما في حالة التأثير والانفعال الشديد فإن الخلايا العصبية تطلق الشحنات بشكل متكرر تؤدي إلى استجابه عالية . فالتقسيمات الدماغية المرتبطة بالوظائف المختلفة لمجمل العمليات الجارية والمتفاعلة مع الوسط الطبيعي والاجتماعي هي خصائص عضوية موضعية مترابطة ومتفقة مع التأثيرات التي تحدثها 0ولجميع التأثيرات المختلفة والمتعددة في مناطق المخ تجعل منه جهاز معقد ومنظم ، مترابط الأجزاء بصورة قياسية قادرة على تنظيم التبادلات الجارية في بنيته الحية ، وبالتالي فإن الدراسة الفيزيولوجية للعمليات الدماغية مرتبطة أساساً بمعرفة مكوناته الأساسية والإجمالية وتحديد المناطق المسؤولة عن الاستجابات النوعية المختلفة لهذه الأجزاء بشكل إنفرادي ، إنها دراسة تقوم على معرفة مناطق الخلل في البنية الدماغية المرتبطة بآثارها الناتجة عن التغيرات السلوكية للفرد ومدى الجاهزية الحركية والاجتماعية والإدراكية ، وقدرة التكييف مع المتغيرات الجارية في المحيط الحيوي من خلال التأثيرات الجارية على البنية الدماغية .
فالدماغ البشري لم يكن دوماً على نفس المستوى من الجاهزية فقد تغير وفق نظام تطوري معقد للغاية ، لأن بنيته التكونية معقدة ومتدرجة في التكوين التتابعي منذ الولادة ، فالدماغ يرفع جاهزيته التمايزية المتتالية حتى يستطيع الاستقرار ضمن نظام قائم على التنوع والتداخل المعقد ، وكل ماهو خارج الدماغ من نظم وعلاقات وأفكار وتنوع الاستجابات وجميع الوسائل والغايات هي واقعة ضمن وعيه لها ومعرفة مكوناتها وسماتها الأساسية إنه يمتلك مقدرة على استيعاب النشاط الإنساني بكل أنواعه ويكون فاعلاً في نظامه .
فالتقسيمات الدراسية الجارية على الدماغ البشري غايتها التحديد الموضعي للأمراض المتنوعة وانعكاساتها على السلوك الفردي لأن البنية الدماغية تحتوي على مناطق تخصصية لأنواع كثيرة من الاستجابات فجميع الأجهزة الناقلة للإشارات من الوسط الخارجي تطبع مؤثراتها على أجزاء محددة من الدماغ بحيث تجعل من تكامل الأجزاء الدماغية وتفاعلاتها مع هذه المؤثرات ، لتعطي الإستجابات والأوامر والأفكار الناتجة عنها صيغة الجاهزية الموحدة للنشاط ، فالعيون تمد الدماغ بالمعلومات البصرية والأذن بالمعلومات السمعية والأنف بالمعلومات الشمية والفم بالمعلومات الذوقية وغيرها من المناطق القادرة على إعطاء الدماغ المعلومات الكاملة عن علاقة الكائن البشري مع الوجود وتفاعله مع الوجود نفسه إنها مدركات للتعامل مع الواقع المباشر وجميع هذه القنوات الاتصالية لها مناطق دماغية استقبالية وتحليلية تنظم معطياتها وتتجاوب بشكل منظم مع هذه المعطيات .
فالمناطق المتضررة من الدماغ يمكن الكشف عنها بواسطة مسح كامل للمخ لتحديد مناطق التلف المختصة وتوضح كريستين تمبل مؤلفة كتاب المخ البشري طرق مختلفة لإجراء المسح الدماغي منها المسح بالأشعة المقطعية بالكمبيوتر يمكنها التوصل إلى صورة أكثر تفصيلاً للدماغ وطريقة التصوير بالرنين المغناطيسي وهذه الطريقة تستغرق وقتاً طويلاً وتسبب ضوضاء مزعجة للمريض إلا أنها أكثر دقة من طريقة الأشعة المهبطية ، وهناك طريقة تدفق الدم بالمخ عن طريق وسم الدم بنظير مشع وقياس الانبعاث الإشعاعي في مختلف مناطق المخ .
هذه الطريقة تمثل وضوح مكاني للمنطقة المصابة غير أن نجاحها يعتمد على حدوث الظاهرة المرضية فترة طويلة من الوقت ، أما تحديد كمية الغلوكوز (السكر ) المستهلكة بالمخ توفر معلومات عن المنطقة المصابة في إطار زماني للظاهرة المرضية الناشئة في الدماغ وتتم آليتها من خلال تحميل الغلوكوز مادة مشعة ورصدها المتواصل بالأـشعة المقطعية ومراقبه عملية إختلال التمثيل الغذائي ( الأيض ) في الدماغ لتعطي فكرة عن المنطقة المصابة غير أن اختلال عمليات التمثيل الغذائي غالباً ما تكون جارية بشكل أوسع من المنطقة المصابة فتعطي نتائج غير دقيقة للمنطقة ، ولعل أهم الطرق المستخدمة في عمليات الكشف عن المناطق المصابة والمتضررة من الدماغ هي طريقة تخطيط الدماغ الكهربائي وهي تقوم على استجابة كهربائية مستدعات يمكن تسجيل متغيراتها من عدة أقطاب موضوعة على فروة الرأس وتسجيل التغيرات بواسطة الكمبيوتر .
فجميع الوسائل المستخدمة في الكشف عن المناطق المتضررة في الدماغ غايتها تحديد مكانها الدقيق لإجراء العلاجات اللازمة لها ، فلكل منطقة دماغية وفق المعطيات الفيزيولوجية مهام مناطة بها تقوم على التجاوب مع معطياتها وتحليل محتواها وإتخاذ ما هو ضروري لذلك 0كما أن تحديد هذه المناطق وفق مهامها يؤدي إلى سهولة العلاج الموافق لهذه المناطق في حال إصابتها بأضرار وتشوهات مختلفة
فالدراسة الجارية على المخ البشري ناتجة عن هدفين أساسيين :
أولهما معرفة كافة الظواهر المرضية الناتجة عن خلل في مناطق الدماغ وإنعكاسها المباشر على السلوك الفري ، وتأمين العلاج اللازم لتأمين التجاوب بين الكائن وعالمه الخارجي 0أما الهدف الثاني فإنه يقوم على معرفة البينة المتكاملة والمترابطة للدماغ ومدى جاهزيته العالية للتفاعل مع العالم لأن الدماغ البشري جهاز معقد ومنظم يمتلك منظومة بنيوية عالية الدقة قادرة على إعطاء الصفة الفريدة والنوعية المتمايزة للكائن البشري عن بقية الكائنات .
تتحدد الطبيعة البشرية بخواصها الجسدية ضمن مجال النشوء الحي من خلال إرتكازها على الدوافع لأنها نظام مطابق للمملكة الحيوانية في المكونات الدنيا التي تقع في أسفل الدماغ ،غير أن الدوافع الإنسانية قد صقلت وتغيرت مع المتغيرات الثقافية والاجتماعية ،وضمن تأثير التبادلات الإجمالية مع الوسط الطبيعي والعلاقات الاجتماعية تطورت الوظائف الحيوية للكائن البشري 0
غير أن وجود القشرة الدماغية باتساعها القادر على إحراز تنوع النشاط والمهام والاحتفاظ بالخبرات والمواهب والمعارف والقدرة على الإبتكار ، والارتفاع المتوافق مع المتغيرات الجارية وجميع النظم والمنشآت والصناعات وكل من يدخل في دائرة النشاط الإنساني ساهم في إعداد الإنسان الراقي وفق بناء تطوري محكم التصميم .
فالدوافع وفق ما حددتها كريستين تمبل تساعد في تنظيم السلوك الخاص بالجوع والأكل والعطش والشرب كم أنها تساهم في الرغبة الجنسية والأنشطة الاجتماعية والاحتفاظ بحرارة الجسم والسيطرة على المظاهر الانفعالية كالخوف والغضب وغيرها من الدوافع الناتجة عن تأثير المناطق السفلى والوسطى من الدماغ البشري .
فالدوافع الإنسانية القادمة من المهاد تؤدي إلى استجابة تحض الكائن على الإقدام نحو الطعام ضمن فترات محددة وفقاً للحاجة إلى ذلك كما أن الاستجابة توضح نوعية الطعام ومدى قدرة الكائن على تقبله فالعلاقة بين الدوافع والكائن مرتبطة بالحاجات ونوعية هذه الحاجات ،ومن خلال تأمين الحاجات المختلفة واللازمة لحياة الكائن ،وبالتالي تأمين تواصله النوعي هي العلاقة الأكثر جوهرية في حياته لأنها تؤمن بقاء الكائن حياً ضمن نظام من الأجهزة المترابطة بدقة والمكملة لبعضها البعض وتستطيع الدوافع تأمين تفاعل يحدد سلامة الكائن في علاقته مع محيط النشوء الحي وتلأمين سلامته كنوع قابل للاستمرار مع محيط عالي التنوع .
فالعلاقة بين الكائن البشري ونظامه الغذائي داخل سياق التطور ،أعطى خبرة فائقة في تحديد نوعية الأطعمة المغذية ونوعية الأطعمة الضارة كما أن المذاق والشم لعب دوراً أساسياً في تحديد نوعية الطعام المتوافقة مع الجوانب النفسية والإجتماعية للكائن البشري ،ويمكن أن نقول بأن الطعام دخل المجرى الثقافي للشعوب المختلفة فهناك شعوب لا تتقبل طعم بعض الحيوانات وبعض أنواع النباتات كما أن لوجود الشكل العام وطريقة التحضير ومنظر الطعام الخارجي يلعب دوراً مهماً في تقبل الطعام .
فالإنسان يتعلم بشكل سريع تجنب تناول الأطعمة المؤذية ويمتلك مقدرة عالية على التكيف مع أي بيئة جغرافية جديدة ويجري تعديلات مناسبة وملائمة لطريقة تناوله الطعام في الظروف الجديدة ،فالتحديد المرتبط بالتغيرات الجارية على النظام الغذائي للكائن البشري ضمن معطيات جديدة وطارئة يمكن أن تحددها منطقة مخية معينة تسمى الجسم اللوزي كما تؤكد كريستين تمبل ،لأن تدمير الجسم اللوزي يعوق القدرة على إصدار الأحكام الدقيقة حول ماهو جديد وماهو قديم من الأطعمة ويبين ما هو متفق مع بيئة الكائن وما هو مخالف لها .
فالجسم اللوزي له أهمية كبيرة في التمييز بين المثيرات المتنوعة لكي نستجيب لها بصورة تناسب نظامنا الغذائي ،غير أن ما يحتويه المجتمع من تعقيدات مختلفة وأنظمة ومفاهيم متغايرة ومتباينة حول طبيعة الأغذية نابعة من أجواء ثقافية ومعتقدات دينية ، فالرخويات لها مذاق لذيذ ومفيد عندما تؤكل قبل معرفة طبيعتها ولكن عندما يعرف المسلم نوعيتها تثير لديه الإقياء ،وهناك نوع معاكس لتقدير نوعية الأطعمة فالفلفل الحار له تأثير مهيج وحار يبعد الإنسان عن تناوله غير أن الثقافة الاجتماعية حددت له ميزات غذائية ودوائية وبالتالي أصبح الفلفل الحار وجميع التوابل ضمن النظام الغذائي وأصبحت من مكسبات الطعم الرئيسية في المطبخ المعاصر نظراً لاندماجها مع الثقافة البشرية .
فالقضية الأساسية للتوافق بين المزاج البشري ونوعية الأطعمة المختلفة ترتبط بالوضع الثقافي والوضع الاجتماعي والديني ،ويمكن أن تدخل مجالات أخرى تحدد العلاقة بين الإنسان ونوعية الطعام الذي يأكله لأن اختيار الطعام يتأثر بالكثير من العوامل الطقوسية والمفاهيم والممارسات الاجتماعية والنظام البيئي وطريقة الانفتاح على الوعي الغذائي لأن التزايد المطرد لتأثير العلوم والصناعات الغذائية على المذاق العام للشعوب ستغير النظرة الإنسانية تجاه المفاهيم الغذائية بما يؤدي إلى التوافق بين الإنسان وما يتناوله من الأغذية الضرورية لأن الوعي الغذائي ضمن نظام عالمي متوحد من خلال شبكة من الاتصالات الذكية ستقلب الوضع الإنساني وتحدد السمات الغذائية القادرة على إعطاء الإنسان النشاط والحيوية وبالتالي فإن الإنسان سيبتعد تدريجياً عن الأغذية المسببة لخلل في توازن الكائن البشري من تناوله لنوعية معينة من الطعام كما هو في مرض الهزال الرزي عند بعض الشعوب .
2 - المخ لتنظيم العمليات المعرفية المرتبطة بحاجات الكائن البشري :
تحدد المعرفة الدماغية للمكان تتابع الصور المكانية لأن النظام المعرفي المتبع يقوم على قراءة الحالات المتتابعة للظواهر الثابتة أثناء الحركة في المكان من خلال وضع نظام تسلسلي للأماكن البارزة من حيث الشكل والمضمون ،فالتعرف على نظام الأشياء قضية مرتبطة بنشاط مناطق محددة من الدماغ لتشكيل إنطباع مضمون لهذه العلاقات وإدخالها في نظام البرمجة الدماغية باقتفاء الطرق والمسارات المؤدية إلى الأماكن المقصودة ، فالتطور النوعي والجاهزية العالية عند بعض الأفراد يزيد من قدرة التعامل مع الأماكن غير المعروفة ومعرفة الواجهات الأساسية لنظام الأشياء المادية ،فالكثير من الفنانين لديهم المقدرة على الاحتفاظ بنظام الأشكال ومعرفة العمق في بنية خطوطها التشكيلية لأنهم يمتلكون مقدرة عالية في الربط بين التأثيرات والتداخلات المختلفة للمنظور المكاني بشكل تعبيري ،والنظام المعرفي القائم على القراءة وفحص التداخلات والارتباطات في نظام الأشياء وما تحتويه من معاني ودلالات متباينة وقدرة الربط بين العناصر المعرفية ذات الخصائص المتماثلة والمعطيات النوعية لها تتوافق مع القدرات الخاصة على معرفة التوضع المكاني للأعضاء الجسدية وكيفية ارتباطاتها مع النظام الخارجي للكائن البشري ،ومعرفة التفاعل والتداخل بين الأعضاء البشرية وبين الوسط القائمة فيه وبالتالي قدرة التداخل بين الأعضاء البشرية ونظام السلوك العام والتفاعل مع الآخرين ضمن نظام من القواعد الاجتماعية المرتبة وفق مفاهيم المجتمع والنظام التفاعلي في بنيته ، فالكلام له مظاهر متنوعة في الواقع الاجتماعي البشري لأن بعض المجتمعات تتفاعل مع الكلام من خلال صيغة احتفالية قائمة على الإلقاء المباشر داخل الجماعة تحقق نظام تفاعلي قائم على عمق المشاعر في التأثير المتبادل وفي أنظمة أخرى يكون التفاعل مع الكلام من خلال النظر والتفاعل البصري ومراقبة المشاعر الخارجية وسمات الوجه العامة . إن مثل هذه التفاعلات تدخل في النظام المعرفي الدماغي لتعطي الصيغ المناسبة لكل نوع من التفاعلات والعلاقات العضوية في المجتمعات المختلفة .
وإن عدم المقدرة على التجاوب مع المعطيات القائمة والظاهرة أمام الكائن البشري تؤدي إلى ظهور ظاهرة الإهمال وتجاهل قسم معين من المنظور الداخل في الرؤية وبالتالي عدم المقرة على مواكبة التغيرات الجارية في المحيط خارج نطاق الكائن لأن التعامل المرضي مع نظام المحيط الإجتماعي والأجزاء الموضوعة أمام المخ تجعل الإهتمام يتركز على قسم محدد من الأشياء الموضوعة ضمن نسق معين وإن تغيير تموضع الأشياء تظهر أمام الكائن وكأنها نماذج جديد غير مرتبطة بالمنظور السابق ،فالكثير من الناس لا يرون غير جانب معين من الواقع ويتفاعلون معه وأي تغيير في واجهة الأشياء وتوضعاتها تظهر وكأنها واقع جديد لم يكن ضمن نظام المدركات الحسية 0وعندما تتعطل المناطق الدماغية المسؤولة عن تنظيم الحركات يصبح من غير الممكن إنجاز حركات متتابعة للوصول إلى هدف معين . فهذه المناطق تنظم العلاقة التبادلية بين أعضاء الكائن ونظام الأشياء الداخلة في علاقة معها مما يقلل الفاعلية الشخصية تجاه المحيط الخارجي وتجعل الكائن خارج نظام الترابط مع محيطه القائم .
لقد تطور الدماغ من خلال التكيف الضروري مع المظاهر الإدراكية المتنوعة في المحيط الحيوي للكائن البشري ،فالتنوع الهائل للموجودات القائمة في المحيط ولدت الحاجة المعرفية والقدرة الدماغية للاستيعاب المتكامل لجميع المعطيات من خلال ظاهرة الترميز اللغوي لتحديد الأشياء بمسمياتها الصوتية في إطار لغوي عالي الفاعلية يرتكز على التحديد الدقيق لماهية الأشياء وارتباطاتها وعلاقاتها التفاعلية فالتفاعل الإدراكي إتخذ مداراً ثابتاً وموحداً أمام الوجود البشري حيث تتابعت النظم المختلفة لتحديد الأسماء في إطار نمطي موجه لإدراك طبيعتها النوعية فقد حدد الدماغ البشري جميع المسميات في المجال الحي وغير الحي وإدراك الماهية البنيوية من خلال مسمياتها الأساسية وبالتالي زيادة التنوع في الكمية المعرفية للبنية الدماغية وتنوع أنماط الذاكرة ومعالجة مخزونها لإعطاء التفاعل الاجتماعي بعداً واضحاً في تعامله مع الأشياء المتواجدة في محيطه ، وإدراك المظاهر المتنوعة للتعامل معها وفق خصائصها البنيوية فقد أمتلك الإنسان مقدرة نوعية للتعامل مع الأحياء بطريقة مختلفة عن التعامل مع المواد الجامدة وغير الجامدة ،فكل المكونات المتواجدة في مجال النشوء الحي تتحدد في علاقة مباشرة ومترابطة مع الكائن البشري ، لقد أصبح قادراً على التأثير في جميع المكونات الأساسية ضمن مجاله الحيوي ،فالقدرة الدماغية تمتلك جاهزية المشاركة المباشرة مع العمليات الخاصة بفهم اللغة والتعرف على مصادرها الصوتية وبالتالي القدرة على التفريق بين الأصوات الناتجة عن لغة موجهة مثل الكلام والموسيقا ،والأصوات الناتجة عن لغة غير موجهة مثل الضوضاء .
فالقدرة الدماغية على تفسير المعلومات الواردة إليه وإتخاذ المواقف المناسبة منها تجعل الكائن البشري يمتلك مقدرة فائقة على التكيف مع المحيط الخارجي والتفاعل مع مظاهره المختلفة وجميع التغيرات الطارئة والتبدلات الظاهرة في مجال النشوء الحي .
إن إختلال الفهم وإضطراب اللغة وعدم القدرة على تحليل الرسائل الواردة تجعل الكائن يعيش واقعاً مضطرب غير قادر على التكيف مع نظام الوعي بالرغم من كونه قادراً على التكيف مع نظام الحياة بمعنى أنه قادر على أن يعيش .وإن عدم قدرة الكائن على تفسير وفهم الضوضاء الصادرة عن البيئة من حولنا تجعله غير قادر على التواصل اللفظي مع محيطه الحيوي .
فالوظائف الدماغية العالية التطور تمثل القدرات الإنسانية المتنوعة وتمتلك أحداث التطورات المتدرجة في المنحى البنيوي للوظائف العضوية الحية لأنها تشارك في التخطيط والتنظيم وأنظمة التحكم ذات المستوى التنفيذي العالي ، فالقدرات الدماغية العالية المستوى والمعدة لإجراء التفاعل النشيط والخلاق في مجال النشوء الحي تخلق واقعاً إنسانياً متبايناً في نشاطه وقدراته الموجهة والقائمة على إنشاء المزيد من الابتكارات الفاعلة وكميات هائلة من التعزيزات المرافقة والضامنة لحياة الكائن البشري نظراً لإدراك البعد الواعي للطاقات والفعاليات الإنسانية .
فالعمليات المكونة للوعي والجارية في إطار البنية الدماغية تتحدد في مسير تطوري جاري ومرافق للتغيرات المتتابعة في الحياة البشرية ،فالتكوين المخالف لما هو مطابق ومطلوب لتعزيز وضمان الحياة الإنسانية يولد منظومة فاعلة وقادرة وذكية على درجة عالية من التنظيم المحكم ، دخلت مجرى بنائي فاعل ومنحرف عن الكينونة المتوافقة مع السلامة الإنسانية ، فقد طورت أساليب شديدة التأثير والتفاعل المرضي وقدرات هائلة من أساليب التدمير وأساليب توجيه الحياة الإنسانية نحو متاهات شريرة وعدوانية وأساليب مسيطرة معقدة لاحتكار مقدرات الوجود وتفعيل أجواء معادية للحياة الإنسانية ومجالها الحيوي من خلال التراكم المستمر للطاقات المدمرة للوجود .
3 - المخ البشري مركز الترميز اللغوي :
يمثل الإتساع في بنية الدماغ المعقدة ومحتوى الموجودات فيه نظام معقد نتعامل معه بصورة مباشرة فالصورة المباشرة لعلاقتنا مع الأشياء تنطلق من إلتصاقنا المباشر بها وتفاعلنا العضوي معها ،فالتعامل مع الأرض والشجر والأحياء والنباتات تتحدد من خلال تلبية حاجات أساسية لوجودنا في نظام متفاعل مع هذه الموجودات ،أما الحقيقة المجردة لهذه الموجودات لا يمكن التعامل معها بالشكل المباشر لأن الإحاطة بالمكونات الأساسية للوجود لا يمكن أن يكون من خلال التفاعل المباشر ،وبالتالي فإن نظام الحياة البشرية المنطوية ضمن علاقات متنوعة ومتغيرة لا يمكن استيعابها بالإحساس المباشر ،مما أعطى الدماغ وظيفة على قدر كبير من الأهمية لإنجاز مقدرة فائقة على التفاعل مع الموجودات بكل مكوناتها في إطار الترميز اللغوي فلولا الترميز اللغوي لأقتصرت حياة الكائن البشري على المشاهدة الحسية في التعامل مع المنظومات والكينونات المادية بصورة مباشرة بدون خلفيات عقلية ،فكان الترميز اللغوي هو المحتوى الجوهري لتأمين النظام الموقعي للأشياء ونظام الارتباط مع غيره ، بشكل مستقل عن وجودها القائم في واقعة ، مما عزز فصل العقل عن العالم وأخذ يحقق فعاليته ضمن المنظور الحياتي من خلال الاستقلالية الذاتية للكائن ضمن وسط متنوع التكوين والتعبير فقد جعلت اللغة من الكون نظاماً محتوى في العقل يعبر عن ماهيته بالمعرفة العقلية المجردة ، فتوسعت العلاقات والخبرات والمعارف وتلازمت مع المسيرة الصاعد لهذا التلازم ،بما يؤدي إلى التزايد الكمي المتواصل للمعارف عن نظام الكينونات المادية والكينونات الحية والعلاقات والقوانين الداخلة في نظامها الأساسي ، كما أن الترميز اللغوي أعطى التواصل في نقل الخبرة المعرفية والاتصالية بين البشر باستقلالية تامة عن الماهية المادية للموجودات ، وأخذ النشاط الاجتماعي يدخل ضمن منظور تبادل الخبرات والأفكار والأخبار عن طريق اللغة ، وتعمق التواصل أكثر عندما أتخذ الإنسان من نظامها الفاعل تشكيل حياة ثقافية متنوعة جعلت الكائن الإنساني يمتلك مقدرة فائقة على التأليف الأولي وإعطاء صورة متنوعة عن المعرفة ، دخلت مجرى الحياة الإنسانية بعمق أكبر عندما تنوعت وخرجت على شكل أعمال أدبية ( كالشعر والقصة والمسرحية والدراسات والرسم والأفلام والموسيقا ) ومعارف علمية ضمن قوانين دقيقة ونظريات اجتماعية وأنظمة عقائدية دينية وغير دينية مما أعطى الأبعاد الإنسانية صيغة متميزة في الوجود الحي وقدرة فائقة على الصياغة والتكيف والترويح عن النفس البشرية بشتى أصناف المعرفة المتميزة بكل معطياتها الثقافية والحضارية .
فالعلاقة بين اللغة والتفكير دخلت مجال فلسفي عميق في التاريخ البشري ضمن مناهج تاريخية في نظام الوعي الإنساني ، فقد عبرت النزعة العقلية بأن اللغة تعبير عن أفكار كامنة ذات وجود مستقل وسابقة لنظام التعبير عنها بواسطة اللغة ،فالأفكار هي نظام من الصور والتصورات والمفاهيم مستقلة عن الوعي العقلي لها ،وبالتالي فإن الدماغ الإنساني أستطاع من خلال نمو وتطور نظامه المعقد وتتابع الجاهزية البنوية لماهيته الأساسية عبر التطور الطويل أن يمتلك المقدرة على معرفة هذه الصورة والمفاهيم والأفكار وإخراجها بما يتوافق مع طبيعته الإنسانية .
أما أصحاب النزعة المادية في المعرفة العقلية يعتبرون بأن الفكر والأفكار والتصورات والذكريات وغيرها ليست إلا كلام غير ملفوظ ولا يمكن للفكر أن يكون قادراً على التعبير عن مكوناته الفكرية بدون اللغة ، فاللغة هي نظام القادر على إعطاء الأفكار صيغتها الفاعلة وبالتالي فإن الفكر متلازم التكوين مع اللغة التي تنطق به .
ومهما يكن لنظام الاختلاف والتوافق والغاية المعرفية للمكونات الواعية للوجود وتلازمها مع وجود اللغة والدماغ يبقى الجوهر المتفاعل لنظام الوجود هو الأساس . فما دام الدماغ البشري يتخذ مناحي تزداد تعقيداً مع المعرفة المتنامية للحياة الإنسانية ، فإن الوجود الإنساني سيعمق بنيته ونظامه المعرفي بصورة دائمة ومستمرة ولابد أن يعلم الماهية الأساسية لتواجد الأفكار ونشوء اللغات وعلاقتهما المباشرة بالتكوين الدماغي للبشر وتواصل التقدم الأساسي لبناء المحتوى المتكامل لعناصر التكوين الفكري وعمق التغيرات القادمة في الوجود الإنساني .
فالترابط الوثيق بين القواعد الناظمة للغة والمضمون الدلالي لها يحدد تكوين النظم اللغوية الفاعلة في تكوين الرسائل المعرفية ونقلها إلى الوسط الاجتماعي ويجعل الطرائق اللفظية المختلفة للكلمات معاني مصاحبة لنمو الأفكار وصياغتها بما يتوافق مع المضامين الجوهرية لمعانيها الدلالية لتحقيق أعلى قدر من الانسجام مع نظام الأفكار المتولدة عن المقدرة العقلية للدماغ بما ينطبق مع حالة الأفكار المعبرة عن مغزى واحد بطرق مختلفة فعبارة الطقس لطيف يختلف معناه الدلالي بين الصيف والشتاء .
فالتوافق المنسجم بين الناحية العاطفية والنحوية والمعنى الدلالي يعطي اللغة مقدرة ضمنية لتحقيق نظام التواصل الاجتماعي ،فالدماغ البشري يقوم بتنظيم هذه المعطيات لإنتاج تيار مستمر من الكلام المتوافق مع الرسائل الصادرة عن الوعي لتأمين الفهم المتبادل بين العناصر البشرية المختلفة في طريقة احتوائها على الوعي المعرفي والمعبر عنه بطريقة الأفكار .
فقد ذهب بعض اللغويين إلى الاستنتاج بأن المخ البشري مهيأ لتحليل الوحدات الدنيا للجهاز الصوتي وعبر عنها بالفونيم ، والفونيم وحدة صوتية متميزة لأن الوحدات الفونيمية متغايرة ،فعندما يختلف المعنى في الكلام يرافقه اختلافات صوتية مرافقة وعندما تصبح الاختلافات الصوتية ناتجة عن اللكنة المحلية ( اللهجة المحلية ) يصبح الاختلاف في المعنى بلا أهمية لأن العقل يوجه تركيزه في هذه الحالة إلى المعنى المراد للفكر ،مع معرفته المسبقة بأن اللكنة المحلية داخلة في نظام التعبير المراد التوضيح عنه ،فيعطي نظام التواصل الإنساني بكل لهجاته المحلية قدرة على الاستيعاب المتبادل لجميع الأفكار الصادرة عن الوعي الإنساني مهما كان نوعه .
فالعلاقة بين الأنظمة الصوتية للحروف وقدرة التجاوب مع لفظها من خلال تأمين أوضاع وحركات فموية تميز أصوات الأحرف وحالة إخراجها تحققت من خلال صفة حصل عليها الإنسان بالتدريب المستمر أثناء فترة تطوره ،فالمراحل الأولى للطفولة في المجتمع ونظام التعليم المتوافق مع خصائصه اللفظية وعمق التوافق السمعي البصري في المتابعة اللغوية يؤدي إلى إدراك الخصائص المتكاملة للكلمات المنطوقة ويعمق البنية الدماغية لتأمين الأوضاع الخاصة بالجاهزية الدماغية لاحتواء اللغة بأنماطها المختلفة وتظهر اللغة بعد تأصلها بالدماغ وكأنها نظام مستقل قائم بذاته ، بشكل يعمق الاعتقاد بأن اللغة صادرة عن المخ البشري .بينما الحقيقة الجوهرية هي أن اللغة واردة إلى الدماغ البشري وما يقوم الدماغ من عمل هو إعادة بثها من جديد بخصائص توافق الطبيعة التكوينية لمحتواها في الدماغ ذاته .
فالدماغ يعمل ضمن التنسيق المترابط بين المركز البصري والسمعي والمراكز الحسية والحركية بما يتوافق مع دمجها وإخراج مؤثراتها على شكل معلومات متوافقة مع نظام المعالجة الداخلية للدماغ ، لتعبر عن ذاتها وفق أنظمة دلالية لكل كيفية محددة من المفاهيم ،فالأنظمة الدلالية للمعرفة العلمية متميزة عن الأنظمة الدلالية للمعرفة الأدبية ،وهذا ما يجعل الدماغ كلاً موحداً من الأنظمة الإرشادية توجه الوعي نحو حقيقة مضامينه المتكاملة ،فالوعي المعرفي المتنوع يعطي الوجود الإنساني صيغ متنوعة من المعارف تغني الوجود الإنساني وتخلق طاقات فكرية متنوعة في جميع المجالات .
فالتزايد المتراكم للنشاط المعرفي والإطلاع الدائم على خبرة الأجيال المعرفية في مختلف الميادين والأنشطة الفكرية ،عمقت النظام التكاملي في الدماغ وأعطته مقدرة عالية والمعالجة المستمرة لمجمل الشفرات الرمزية للقراءة والكتابة وسمحت بالتعامل مع الأبحاث والتجارب والأخبار القادمة من مختلف أنحاء العالم مما عمق التواصل ومعرفة المستوى العام والحصيلة العامة لمجمل الأبحاث والمكتشفات في الواقع الأرضي ،فالعقل البشري احتوى نظام معرفته الكلية من المستوى الذي وصلت إليه جميع الأدمغة البشرية لأن تحقيق المعرفة الامتدادية على كامل الوجود البشري سمحت للإنسان أن يتابع الإبداع الفكري من المستوى النهائي لإنجازات الفكر الإنساني ،فتوسعت المضامين الفكرية بما يتوافق مع التوسع النوعي للمعرفة المتكاملة ،فاكتسب الدماغ قابلية قياسية تجاوزت المحتوى الإجمالي الكلي والنوعي لكل نواتج الدماغ الإنساني على مر العصور ،فالدماغ البشري يدخل في نظام المحتوى الإجمالي للتجربة الإنسانية والمستوى النهائي للمعارف المتنوعة وينطلق في نشاطاته المختلفة مع التوازن والتوافق الفكري مع الإنتاج المرحلي لكل حقبة زمنية قائمة وقادمة ،فالوعي العقلي يكمل النظام المعرفي للأجيال السابقة بشكل مستمر ،مما يوسع القدرة الدماغية بشكل دائم لتقبل الزيادة المتراكمة في نظامه الوعي الكلي لكل أنواع النشاطات الصادرة عن الإنتاج الفكري ،فالنظام المكتمل للدماغ البشري جعله مستودعاً لكل الخبرات والمهارات والأفكار عبر تغير العصور ،فالتزايد المستمر للنشاط العقلي وتزايد الكم الهائل من المعارف العلمية أعطى الدماغ الإنساني مقدرة على التلاؤم والتوافق مع المتغيرات العلمية بما يجعل الدماغ البشري أهم عضو في مجال النشوء الحي أستطاع أن يواكب جميع التغيرات الجارية على نظام الحياة ،بما يؤكد عندنا النزعة الانفصالية عن بقية الكائنات الحية نظراً لتجاوز الدماغ البشري لقدرة جميع الأحياء وأجهزتها الدماغية ويولد الشعور المتزايد بأن العنصر البشري له وجود مستقل قائم بذاته ولكن دون أي ارتفاع أو اختلاف عضوي عن مكونات الحياة الأرضية .
فقد توسع الإنسان في مجال العلوم بمختلف فروعها وتنوعت المعارف العلمية وتزايدت المخترعات الناتجة عن العلم بما يفوق الوصف وتنوع الإبداع الأدبي بمختلف مجالاته فنظام القصيدة الشعرية تغير ونظام القصة وكل الدراسات الإنسانية ترتفع مع التقدم وتلازم متغيراته الكونية ،كما أن التعبير الجمالي والنشاط الفني والموسيقي أزداد تنوعاً وأغنى النفس البشرية بنماذج متنوعة من الفنون تفاعلت مع الوجود الإنساني ووسعت مداركه تجاه الفن والموسيقا وتنوعت النظم الاجتماعية وطبيعة العلاقات بين البشر ودخلت مجرى هام من التشكيل الجديد بحيث أصبح التفاعل البشري يتوسع باستمرار حتى يصل إلى المستوى الشامل والتداخل التام في نظام العلاقات بين البشر 0لقد دخلت العولمة إلى النظام الإنساني لتصنع من الوجود البشري علاقات متكاملة ومتوحدة في الأبعاد بما يعمق إمكانية كل فرد في نظام العالم ليكون معبراً عن ماهية محتواه ونظامه المعرفي .
فالزخم الهائل من الاكتشافات وتزايد الأقنية الاتصالية بين البشر يعمق المحتوى البنوي للدماغ ويرفع جاهزيته بشكل متواصل ليكون أكثر استقبالاً وتجاوباً مع المتغيرات الكونية ،ليستطيع التكييف مع نظام بيئي جديد من حيث المحتوى إنه النظام المكون من أجهزة معقدة ومتطورة تواكب المتغيرات الجارية في نظام العالم وتجعل العلاقة بين البيئة الصناعية والبيئة الطبيعية شديدة الارتباط والترابط لأن الأجهزة المصنعة من قبل الإنسان نفسه تغزو الواقع الطبيعي البيئي وتجعل العلاقة بين الإنسان والنظام الوليد في غاية الترابط ، وإذا لم يستطيع الإنسان التغلب على جميع المشاكل البيئية الراهنة والمستقبلية يكون قد وصل عندها إلى مرحلة من التطور ،عليه أن يختار بين أن يتابع وجوده في أجواء بيئية مخالفة لأنظمة حياته السابقة وبين أن يسلم نفسه لدمار وانهيار محتوم .
4 - المخ جاهزية نوعية يستقبل المفاهيم الدالة على الرقي البشري :
الدماغ البشري نظام متكامل الأبعاد للتفاعل مع وجود يعطي الحياة كماً هائلاً من الإتساع المعرفي في مختلف المجالات والتوجهات ونظام العلاقات جعل الإنسان يرتفع عن بقية المخلوقات بقدرته الفائقة على المتابعة المستمرة للتغيرات الجارية على نظام المعرفة الخلاق بكل مكوناته المتواجدة والفاعلة على هذا الكوكب وما يعتريها من مظاهر السلوك القابلة لإحداث أنماط متغيرة من الاستعمالات المتنوعة لكل أصناف الابتكارات المادية والمعرفية وقدرة الدماغ البشري للغوص في أرجاء الحياة وقوانينها وربطها بما يفوق قدرة العقل على المعرفة ، فالشعور الدائم بعدم كاملية العقل وعجزه عن إدراك الأبعاد الكلية للوجود عمقت بنيته القابلة لنقل المتغيرات الطارئة في نظامه إلى كل الأجيال لأن الدماغ البشري وماقد يحصل عليه من معرفة ناتجة عن عمق اتصاله المباشر مع الكون والنظام الحي من حوله ،تابع اجتياز الأنظمة المتعاقبة مع وجوده مع إقراره الدائم بأن العالم من حولنا يحوي الكثير والكثير من المعلومات والأفكار والكثير من القوانين القابلة للمعرفة عن طريق جهد العقل المتطور ،وبالتالي فإن الإنسان بقدراته الدماغية المتعاقبة والمتطورة عبر مر العصور طورت خصائصها المعرفية ووسائل اتصالها المباشر مع المحيط وقدرتها على اكتشاف المزيد والمزيد من الإمكانيات القابلة لأن تكون قادرة على المساعدة المتواصلة لما يملكه الدماغ من مقدرة على معرفة ما هو أكثر من ذلك بكثير لتجاوز مختلف المصاعب التي تواجه الإنسان في علاقاته مع مجال النشوء الحي .
فالخاصية الأساسية والمعبرة عن صدق العقل الإنساني في التعامل مع القضايا الكونية تعطي الأمل المتواصل للمعرفة المتواصلة ،لأن وضع النظام التفاعلي ليس له حدود من المعرفة المستمرة ،فالعقل الإنساني كان يدرك دائماً بأن ما حصل عليه من معارف وقوانين لا تساوي شيئاً في نظام الكون المكون من كم لا يمكن حصره من المعرفة المركزة في بنيته وفي كل جزء من أجزاءه المتنوعة ، وقدرة فائقة على المتابعة المتكاملة لهذه الأنظمة المختلفة من المعارف في كل مجالات الكون من حولنا لأن العمق الدماغي في بنية الإنسان له وجود عميق في التكوين الملائم لماهية الكون يفجر لديه الطاقات المتتابعة للمعرفة المستمرة والدائمة حول الوجود من حوله ويعطيه مظاهر متنوعة من الوجود المختلف على جميع المسارات العقلية والتجمعات البشرية المختلفة في ماهية وجودها ونظامها المتكامل الأبعاد للاتحاد مع عمق البنية الكونية وتعميق الاتساع المتواصل مع المجريات القائمة في نظام العالم لأن الدماغ البشري جهاز معقد التكوين ويستمر في التعقيد المتتابع مع نمو الحياة وتطورها عبر الزمن ،لأن الدماغ شأنه شأن جميع موجودات الكون المستمر في تعميق بنيته وتكامل أنظمته فالعقل يتعمق مع التعميق المباشر والمستمر لكل محتويات الكون الإجمالية والمعرفية ،فالمعارف المتزايدة والمستمرة للدخول في النظام الدماغي للإنسان توسع بنيته الدائمة في مجال تكوينه وترفع مقدرته على الاستيعاب المتواصل لكل الزيادات الناتجة عن توسع المعرفة وتوسيع مجالات أبحاثه المختلفة على مجمل النظم وقنوات العلوم المختلفة ،فقد كان الدماغ الإنساني المتشكل من بدايات مباشرة في التعامل مع الموجودات على شكل مواجهة بسيطة وقدرة ضئيلة على التكيف مع الوسط أستطاع من خلاله تطوير نظام المتابعة المستمرة لمختلف المتغيرات الجارية في أنشطة الإنسان بالذات وعمق مجال أبحاثه بانتظام متواصل وضمن مسير تاريخي عسير من الإخفاقات والإنجازات والحروب والمواجهات الهائلة لكوارث مستمرة في نظام كوني واسع فجرت الاستعداد لديه لتحقيق كينونته الفاعلة مع وقائع جديدة بشكل متواصل وعبر قرون طويلة من التلازمات الشاقة بين الإنسان والحياة تابع نظامها وحض ذاته بشكل دائم على إخراج منظومة من الأفكار القابلة للحياة مع المتغيرات الجارية في نظام اجتماعي يتطور وفق المعطيات الجديدة وإدخالها في بنيته على مر العصور ،لقد تعامل العقل مع الكون ضمن أنظمة معرفية تكاملية عمقت قدرة الكائن البشري للإتحاد بنظام الكون الخارق ،وتوسيع المجال العقلي بإعطائه مدارات مختلفة من البنى العميقة لأساس التكوين وإستمرار التكوين ،ومعرفة متنوعة من الإسهامات المباشرة على شكل نظم وقواعد أخلاقية وسلوكية وتوقعات مستقبلية لماهية الكون من حولنا ونهايته ،لقد أدرك الإنسان أنظمة مختلفة من العبادات والتصورات المتنوعة لماهية الوجود القائم على أساس من الدعائم العميقة في بنيته وسعت المدارك الإنسانية وجعلتها في حالة استعداد دائم للانفتاح والإتحاد مع عمق الكون الأعظم ،مما ولد الرغبة الدائمة لتوسيع مدارك العقل حتى يصل إلى لحظة الانفتاح على الوجود الكوني ومعرفة الكينونة الجوهرية الفاعلة في الوجود ونظامها المتسق ،فتابع العقل توجهاته نحو معرفة الماهيات الأساسية للكون وتنوعت معارفه واتخذت مجالات واسعة في النشوئية داخل أنظمة علمية وفلسفية وعمليات كشفية متنوعة جرت في إطار معقول وغير معقول لأنها تسير نحو الغاية التكاملية للوجود الحي وبالتالي التوسع الدائم في مجالات العلوم المختلفة وتوسيع الملكات الكامنة في العقل لتحقيق أفضل الاكتشافات وأكثرها أهمية حتى يصل العقل إلى الدرجة النهائية لإمكانية تخليد ذاته في علم المعرفة الكونية وتعميق المكانة الأساسية للوجود الإنساني وقدرة الوصول إلى العمق الجوهري للنظام الطبيعي التكاملي في ماهية النظم الحية وغير الحية وبالتالي الارتفاع من وجود قائم على الغائية إلى وجود أبعد من الغائية ذاتها إنه الوجود المتعمق في البنى والمكون من أنظمة عقلية متنوعة تتفاعل لتعطي الوجود صفاته الحيوية في النشاط والمتابعة القادرة على تغيير نظام المعارف بشكل دائم بما ينسجم مع تتابع العمق الكوني في تواصله العميق مع كل الموجودات الداخلة في نظام متسق ومتكامل الأبعاد والأشكال ،لأن الغاية النهائية لمجرى البنى المعرفية تقودنا إلى أن نكون في عمق متواصل ضمن نظام الصيرورة المتغيرة في معطياتها الفاعلة وأبعادها اللانهائية .

المرجع المعتمد :
كرستين تمبل – المخ البشري – ترجمة عاطف أحمد –عالم المعرفة –العدد 287- نوفمبر 2002- عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت

ليست هناك تعليقات: